فصل: تفسير الآيات (220- 221):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (220- 221):

{فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
وقولُه تعالى: {فِى الدنيا والاخرة} متعلقٌ إما بيُبيْن أي يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات وإما بمحذوفٍ وقع حالاً من الآيات أي يبينها لكم كائنةً فيهما أي مبيِّنةً لأحوالكم المتعلقةِ بهما، وإنما قدم عليه التعليلُ لمزيد الاعتناءِ بشأن التفكر، وإما بقوله تعالى: {تَتَفَكَّرُونَ} أي تتفكرون في الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة في الأحكام الواردةِ في أجوبة الأشئلةِ المارّة فتختارون منها ما يصلُح لكم فيهما وتجتنبون عن غيره. وهذا التخصيصُ هو المناسبُ لمقام تعدادِ الأحكام الجزئيةِ ويجوزُ التعميمُ لجميع الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة بذلك حينئذ إشارةً إلى ما مر من البيانات كلاً أو بعضاً لا إلى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعلٌ مستقلٌ ليس بعبارة عن تلك البيانات والمرادُ بالآيات غيرُ ما ذكر والمعنى مثلَ ذلك البيان الوارد في الأجوبة المذكورة يبين الله لكم الآياتِ والدلائلَ لعلكم تتفكرون في أموركم المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعُكم فيهما وتذرون ما يضرُّكم حسبما تقتضيه تلك الآياتُ المبينة.
{ويسألونك عن اليتامى} عطفٌ على ما قبله من نظيره رُوي أنه لما نزلت {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} الآية، تحامى الناسُ عن مخالطة اليتامى وتعهُّد أموالهم فشق عليهم ذلك فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أي التعرضُ لأحوالهم وأموالهم على طريق الإصلاح خيرٌ من مجانبتهم اتقاءً. {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} وتعاشِروهم على وجهٍ ينفعهم {فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم أي في الدين الذي هو أقوى من العلاقة النسبية، ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطةُ بالأصلاح والنفعِ، وقد حُمل المخالطةُ على المصاهرة {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} العلم بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد و(من) لتضمينه معنى التمييز أي يعلم مَنْ يفسد في أمورهم عند المخالطة أو مَنْ يقصِد بمخالطته الخيانةَ والإفسادَ مُميِّز له ممن يُصلح فيها أو يقصد الإصلاح فيجازي كلاً منهما بعمله، ففيه وعدٌ ووعيد خلا أن في تقديم المفسد مزيدَ تهديدٍ وتأكيداً للوعيد {وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ} أي لو شاء أن يُعْنِتَكم أو يكلفَكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوِّزْ لكم مداخلتَهم {أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعِزُّ عليه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتُكم فهو تعليلٌ لمضمون الشرطية، وقولُه عز وجل: {حَكِيمٌ} أي فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمةُ الداعيةُ إلى بناء التكليف على أساس الطاقة، دليلٌ على ما تفيده كلمة «لو» من انتفاء مقدمها.
{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} أي لا تَتَزوجوهن وقرئ بضم التاء من الإنكاح أي لا تُزوِّجوهن من المسلمين {حتى يُؤْمِنَّ} والمرادُ بهن إما ما يعم الكتابياتِ أيضاً حسبما يقتضيه عمومُ التعليلين الآتيين لقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} إلى قوله: {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} فالآية منسوخةٌ بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وأما غيرُ الكتابيات فهي ثابتة ورُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث مَرْثدَ بنَ أبي مرثد الغنوي إلى مكةَ ليُخرج منها ناساً من المسلمين وكان يهوى امرأةً في الجاهلية اسمُها عَنَاق فأتته فقالت: ألا تخلو؟ فقال: ويحك إن الإسلامَ حال بيننا فقالت: هل لك أن تتزوّجَ بي؟ قال: نعم ولكن أرجِعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأستأمِرُه فاستأمَره فنزلت {وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ} تعليل للنهي عن مواصلتهن وترغيبٌ في مواصلة المؤمنات، صُدِّر بلام الابتداء الشبيهةِ بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغةً في الحمل على الانزجار، وأصلُ أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوِّض منه تاء التأنيث ودليلُ كون لامِها واواً رجوعُها في الجمع، قال الكلابي:
أما الإماءُ فلا يدعونني ولدا ** إذا تداعى بنو الأمواتِ بالعار

وظهورُها في المصدر يقال: هي أَمةٌ بيِّنة الأُموَّة وأقرَّتْ له بالأموّة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف أي ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر {خَيْرٌ} بحسب الدين والدنيا {مّن مُّشْرِكَةٍ} أي امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قد مر أن كلمة (لو) في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاءِ الشيء في الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحَظَ لها جوابٌ قد حذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه مع انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحقيقِ ما يفيدُه الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته معه ثبوتُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المُنافي القويِّ فلأَنْ يتحققَ مع غيره أولى، ولذلك لا يُذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولةِ لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم: إنها لاستقصاء الأحوالِ على وجه الإجمال كأنه قيل: لو لم تعجبْكم ولو أعجبتكم والجملةُ في حيِّز النصبِ على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خيرٌ من امرأة مشركة حال عدمِ إعجابها إياكم بجمالها ومالِها ونسبها وغيرِ ذلك من مبادئ الإعجابِ وموجباتِ الرغبة فيها أي على كل حال، وقد اقتُصر على ذكر ما هو أشدُّ منافاةً للخيرية تنبيهاً على أنها حيث تحققت معه فلأَنْ تتحققَ مع غيره أولى وقيل: الواوُ حاليةٌ وليس بواضح وقيل: اعتراضيةٌ وليس بسديد، والحقُّ أنها عاطفة مستتبعةٌ لما ذكر من الاعتبار اللطيف. نعم يجوز أن تكونَ الجملةُ الأولى مع عاطف عليها مستأنفةً مقرِّرةً لمضمون ما قبلها فتدبر.
{وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين} من الإنكاح والمراد بهم الكفار على الإطلاق، لما مر أي لا تُزوِّجوا منهم المؤمناتِ سواءٌ كن حرائرَ أو إماءً {حتى يُؤْمِنُواْ} ويتركوا ما هم فيه من الكفر {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} مع ما به من ذل المملوكية {خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ} مع ما له من عز المالكية {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} بما فيه من دواعي الرغبة فيه الراجعةِ إلى ذاته وصفاته {أولئك} استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون التعليلين المارَّيْن أي أولئك المذكورون من المشركات والمشركين {يَدَّعُونَ} من يقارِنُهم ويعاشِرُهم {إِلَى النار} أي إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق فلابد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتِهم {والله يَدْعُو} بواسطة عبادِه المأمنين مَنْ يقارِنُهم {إِلَى الجنة والمغفرة} أي إلى الاعتقاد الحق والعملِ الصالحِ الموصلَيْن إليهما، وتقديمُ الجنة على المغفرة مع أن حق التخلية أن تُقدَّم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداءً {بِإِذْنِهِ} متعلق بيدعو أي يدعو ملتبساً بتوفيقه الذي من جملته إرشادُ المؤمنين لمقارِنيهم إلى الخير ونصيحتُهم إياهم فهم أحقاءُ بالمواصلة {وَيُبَيِنُ آياته} المشتملةَ على الأحكام الفائقةِ والحِكَمِ الرائقة {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لكي يتذكروا ويعلموا بما فيها فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران.
هذا وقد قيل: معنى واللَّهُ يَدْعُو وأولياءُ الله يدْعون وهم المؤمنون على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامه تشريفاً لهم. وأنت خبيرٌ بأن الضميرَ في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى: {وَيُبَيّنُ الله} تَعَالَى فيلزم التفكيكُ وقيل: معناه والله يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلةٌ لمن عمِل بها إليهما. وهذا وإن كان مستدعياً لاتحاد مرجِع الضميرين الكائنين في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبراً للمبتدأ لكنْ يفوِّت حينئذ حسنَ المقابلة بينه وبين قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار} ولعل الطريق الأسلمَ ما أوضحناه أولاً، وإيرادُ التذكرِ هاهنا للإشعار بأنه واضحٌ لا يحتاج إلى التفكر كما في الأحكام السابقة.

.تفسير الآية رقم (222):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} عطفٌ على ما تقدم من مثله ولعل حكايةَ هذه الأسئلة الثلاثةِ بالعطف لوقوع الكلِّ عند السؤال عن الخمر، وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كلَ من ذلك في وقت على حِدَة والمحيض مصدر من حاضت المرأة كالمجيء والمبيت. روي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحُيَّضَ ولا يؤاكلونهن كدأب اليهودِ والمجوسِ واستمر الناسُ على ذلك إلى أن سأل عن ذلك أبو الدحداحِ في نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فنزلت. {قُلْ هُوَ أَذًى} أي شيء يُستقذرُ منه ويؤذي من يقرَبُه نفرةً منه وكراهةً له {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} أي فاجتنبوا مجامعتَهن في حالة المحيض. قيل: أخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناسٌ من الأعراب: يا رسولَ الله البردُ شديدٌ والثيابُ قليلة فإن آثرناهن هلك سائرُ أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحُيَّض فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أُمِرْتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حِضْنَ ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم» وقيل: إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، واليهودُ كانوا يفرِّطون في الاعتزال فأُمر المسلمون بالاقتصاد بين الأمرَيْن {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} تأكيدٌ لحكم الاعتزال وتنبيه على أن المراد به عدمُ قربانهن لا عدمُ القربِ منهن وبيانٌ لغايته وهو انقطاعُ الدم عند أبي حنيفة رحمه الله فإن كان كذلك في أكثر المدة حلَّ القُربان كما انقطع وإلا فلابد من الاغتسال أو من مُضيِّ وقت صلاة وعند الشافعي رحمه الله أن يغتسلن بعد الانقطاع كما تُفصح عنه القراءة بالتشديد وينبىء عنهه قوله عز وجل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإن التطهرَ هو الاغتسال {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} من المأتى الذي حلله لكم وهو القُبُل {إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين} مما عسى يبدُر منهم من ارتكاب بعض ما نُهوا عنه ومن سائر الذنوب {وَيُحِبُّ المتطهرين} المتنزِّهين عن الفواحش والأقذار، وفي ذكر التوبة إشعارٌ بمِساس الحاجة إليها بارتكاب بعضِ الناسِ لما نُهوا عنه، وتكريرُ الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر.

.تفسير الآيات (223- 224):

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} أي مواضعُ حرثٍ لكم شُبِّهن بها لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذورِ من المشابهة من حيث إن كلاً منهما مادةٌ لما يحصُل منه {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} لما عبّر عنهن بالحرث عبّر عن مجامعتهن بالإتيان وهو بيانٌ لقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} {أنى شِئْتُمْ} من أيِّ جهة شئتم.
روي أن اليهود كانوا يزعُمون أن مَنْ أتى امرأتَه في قبُلها من دبرها يأتي ولده أحول فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} أي ما يُدخَّر لكم من الثواب وقيل: هو طلبُ الولد وقيل: هو التسمية عند المباشرة {واتقوا الله} بالاجتناب عن معاصيه التي من جملتها ما عُدَّ من الأمور {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} فتعرَّضوا لتحصيل ما تنتفعون به حينئذ واجتنبوا اقترافَ ما تُفتَضَحون به {وَبَشّرِ المؤمنين} الذين تلقَّوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهي بحسب القَبول والامتثال بما يقصُر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم، أو بكل ما يُبشَّر به من الأمور التي تُسرُّ بها القلوب وتَقَرُّ بها العيونُ، وفيه مع ما في تلوين الخطاب وجعلِ المبشِّرِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المبالغة في تشريف المؤمنين ما لا يخفى {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم} قيل: نزلت في عبد اللَّه بنِ رَواحةَ حين حلَف أن لا يكلم خَتَنه بشرَ بنَ النعمان ولا يُصلِحَ بينه وبين أخته، وقيل: في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا يُنفِقَ على مِسْطَحٍ لخوضه في حديث الأفك والعُرضة فُعلة بمعنى مفعول كالقُبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشيء قيصيرُ حاجزاً عنه كما يقال: فلان عُرضة للخير وعلى المَعْرِض للأمر كما في قوله:
فلا تجعلوني عُرضة لِلَّوائمِ

فالمعنى على الوجه الأول لا تجعلوا الله مانعاً من الأمور الحسنة التي تحلِفون على تركها وعبر عنها بالإيمان لملابستها بها كما في قوله عليه السلام لعبد اللَّه بنِ سَمُرةَ «إذا حَلَفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيراً منها فأتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك» وقوله تعالى: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس} عطفُ بيانٍ لأَيْمانكم أو بدلٌ منها لما عرفت أنها عبارةٌ عن الأمور المحلوف عليها، واللام في لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعُرضةً لما فيها من معنى الاعتراض أي لا تجعلوا الله لبِرِّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس عُرضةً أي برزخاً حاجزاً بأن تحلِفوا به تعالى على تركها أو لا تجعلوه تعالى عرضة أي شيئاً يَعترِض الأمورَ المذكورة ويحجُزُها بما ذُكر من الحَلِف به تعالى على تركها، وقد جُوِّز أن تكون اللامُ للتعليل ويتعلق أن تبروا إلخ بالفعل أو بعرضة فيكون الأيمانُ بمعناها، وأنت خبير بأنه يؤدي إلى الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وعلى الوجه الثاني لا تجعلوا الله مَعْرِضاً لأيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذُمَّ من نزلت فيه {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} بأشنعِ المذامِّ وجُعل الحلاّفُ مقدمتَها و{أَن تَبَرُّواْ} حينئذ علة للنهي أي إرادةَ أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلافَ مجترِىءٌ على الله سبحانه غيرُ معظِّمٍ له فلا يكون بَرَّاً متقياً ثقةً بين الناس فيكون بمعزل من التوسط في إصلاح ذاتِ البين {والله سَمِيعٌ} يسمع أَيْمانكم {عَلِيمٌ} يعلم نياتِكم فحافظوا على ما كُلفتموه.

.تفسير الآيات (225- 227):

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغوُ ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبارِ والمرادُ به في الأيمان ما لا عقدَ معه ولا قصْدَ كما ينبىء عنه قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان} وهو المعنيُّ بقوله عز وجل: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وقد اختُلف فيه فعندنا هو أن يحلِف على شيءٍ يظنُّه على ما حلف عليه ثم يظهرُ خلافُه فإنه لا قصْدَ فيه إلى الكذبَ وعند الشافعي رحمه الله هو قولُ العرب لا والله وبلى والله مما يؤكِّدون به كلامَهم من غير إخطار الحلِف بالبال فالمعنى على الأول لا يؤاخذُكم الله أي لا يعاقبُكم بلغو اليمين الذي يحلِفه أحدُكم ظاناً أنه صادقٌ فيه ولكن يعاقبُكم بما اقترفتْه قلوبُكم من إثم القصْد إلى الكذب في اليمين وذلك في الغَموس، وعلى الثاني لا يلزمُكم الكفارةُ بما لا قصدَ معه إلى اليمين ولكن يلزمُكُموها بما نوَتْ قلوبُكم وقصَدَتْ به اليمينَ ولم يكن كسبَ اللسان فقط {والله غَفُورٌ} حيث لم يؤاخذْكم باللغو مع كونه ناشئاً من عدم التثبّت وقلةِ المبالاة {حَلِيمٌ} حيث لم يعجَلْ بالمؤاخذة، والجملةُ اعتراض مقرِّرٌ لمضمون قوله تعالى: لا يؤاخذكم إلخ وفيه إيذانٌ بأن المرادَ بالمؤاخذة المعاقبة لا إيجابُ الكفارة إذ هي التي يتعلق بها المغفرةُ والحِلْمُ دونه.
{لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} الإيلاءُ الحلِفُ وحقُّه أن يستعمل بعلى واستعمالُه بمن لتضمينه معنى البُعد أي للذين يحلِفون متباعدين من نسائهم ويُحتمل أن يراد لهم من نسائهم {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كقولك: لي منك كذا وقرئ {آلَوْا من نسائهم} وقرئ {يُقسمون من نسائهم} والإيلاءُ من المرأة أن يقول: والله لا أقرَبُك أربعةَ أشهرٍ فصاعداً على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون فيما دون ذلك وحكمه أنه إن فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن أو بالقول إن عجِز عنه صح الفيءُ وحنِث القادرُ ولزِمَتْه كفارةُ اليمين، ولا كفارةَ على العاجز، وإن مضت الأشهرُ الأربعةُ بانت بتطليقه والتربُّص الانتظارُ والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعاً أي لهم أن ينتظروا في هذه المدة من غير مطالبة بفيء أو طلاق {فَإِن فَآءوا} أي رَجَعوا عن اليمين بالحِنْث، والفاء للتفصيل كما إذا قلت أنا نزيلُكم هذا الشهرَ فإن حمِدتُكم أقمتُ عندكم إلى آخره وإلا لم ألبَثْ إلا ريثما أتحوّل {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ للمُولي بفيئته التي هي كتَوْبته إثرَ حنثه عند تكفيره أو ما قصَد بالإيلاء من ضرار المرأة.
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} وأجمعوا عليه {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به من الدمدمة والمقاولةِ التي لا تخلو عنها الحالُ عادة {عَلِيمٌ} بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفَيئة ما لا يخفى.